الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

كَيْ آمْسَـيْـتوا ؟


كَيْ آمْسَـيْـتوا ؟

بقلم :د.محمد المفتي

بعض الناس تستفزهم حتى الإيماءة الساخرة .. البسيطة .. و"لا يتحملون البصارة". أذكر مرة أنني وصفت سكان مدينة بقلة الحفاوة .. على الأقل في نظر الآخرين. فثار البعض بعنف محموم. هذا رغم أن تراثنا الشعبي ملئ بتعليقات المناطق على بعضهم البعض.

التعصب غير الفخر بالانتماء إلى مكان معين. التفاخر فولكلوري ولا يفقد الإنسان عقله. أما التعصب فهو عاطفة مقيتة لأنه يخرجنا عن المنطق ويعمينا عن الحقائق. ووجود التعصب كامن في النفوس أمر محزن. كما أنه ينمي عن جهل بالأمور وربما سذاجة لا تليق بمثقف .. خاصة عندنا نحن الليبيين، لأن البيئة الليبية في أي بقعة هي بيئة طاردة .. ولذلك فإنك ستجد في أي مدينة أو واحة أو قرية من ليبيا خليط من الناس .. أو بكلمات أخرى أن كل سكان المدن والقرى والواحات الليبية هم من الناس الوافدين عليها. فنحن أصلا أصلا بدو رحل، وأي مستقرات بشرية كالمدن والواحات تكونت بجذب الناس إليها الذين يقصدونها طلبا للقمة العيش .. لأن هذه المواطن توفر العمل أو الوظائف. وهذا ما تدعمه الإحصائيات ، فقبل خمسين سنة كان 70% من الليبيين يسكنون الأرياف، والآن 70% يسكنون المدن. وليس هناك نقاء عرقي أو سلالي أي قبلي في أي بقعة من ليبيا. وهذا شئ إيجابي في رأي، رغم أن البعض قد يلح على أسطورة النقاء ويتشبثون بها.



العواطف


كيفية التعامل مع الآخرين هي أيضا تعبير عن علاقات معقدة، نحن مثلا اعتدنا أن تعتبر الإنجليز قوما "باردي العواطف". لكن من يعاشرهم يري أنهم بشر يحبون ويكرهون ويغضبون ويكرمون. الاختلاف درجات فقط. ربما يميلون أكثر إلى الاحتكام إلى التعقل والقانون، بينما نفرط نحن في التعبير عن عواطفنا. فقد تجد الناس في شوارعنا مثلا تغضب وتتوعد وتهدد من جراء مشكلة تافهة. وأذكر أن صديقا متزوجا من أجنبية قال إن إبنه مرض، فطفقت الأم تبكي. المفاجأة أن أم الزوج، أي العمّة الليبية، علقت بعفوية: "سبحان الله، حتى هم يعرفوا يحنوا ويبكوا"!


الحفاوة


الإحتفاء ودرجاته وأشكاله أيضا تعبير عن قيم ومفاهيم، بل وعن طبيعة الحياة في أي مكان بعينه. الحفاوة أمر نسبي. وتحددها ظروف المعاش.


حين يلاقيك البدوي يأخذك بالأحضان، ويسأل ويكرر "كيف حالك؟ ياك طيب؟ كيف حالك؟ ..". ويدعوك للجلوس ويوقد النار ويعد لك الشاهي ويقمر لك الخبز.. وقد تعد لك أسرته مثرودة لأنها تعتمد على التنور .. أما الريفي المستقر فيعدون لك عصيدة أي عيش وسمن. وربما أصر على بقائك للغداء، وربما ذبح لك شاة .. ويسألك "وأنت لمن؟" ، وحين تجيبه يرد " بالجودة" وترد " بَك أجود" ويسألك عمن جئت منهم .. فالضيافة جزء منها استقاء أخبار الناس والدنيا.


هذا هو الكرم التقليدي الحاتمي. لماذا نجده في النجوع ولا نجده في المدن؟ أم أنه أحد الأعراف إن شئت ، بمعنى أنه يلزمك بأن تكرم العابر والضيف؟ فالمسافر في البر بحاجة لمن يطعمه ويأويه. ربما يكون الإحتفاء أيضا من باب طمأنة الزائر، والإطمنان منه. فالبرّ ليس بالمكان المأمون وبالمقابل أنت لا تعرف نوايا كل قادم جديد!


سلامات المدينة


لكنك إذا مررت في سوق بمدينة مثل سوق الظلام في بنغازي أو سوق اللفة في طرابلس القديمة .. وكنت تعرف أحد أصحاب الدكاكين هناك .. فستتوقف وتسلم، وإذا كان فاضيا قد يدعوك للجلوس وربما أصر على أن تشرب معه طاسة شاهي. لكنك لن تبقى طويلا، فالراجل عنده شغل والزبائن يمرون ويسألون ويشترون. وأنت كابن مدينة بدورك، لا تستطيع التوقف لأنك ما مررت بالسوق إلا لغاية .. ربما لشراء قطعة ذهب لإبنتك التي "عطيتها" قبل أيام أو شئ من ذلك.


أما إذا مررت من سوق القزارة حيث كل واحد عاكف على نقر قطعة النحاس التي بين يديه .. أو على دكان حوكي جالس وراء نوله .. فلن تحظى منه على الأرجح بأكثر من رفع ذراعه .. و "خير خير .. كيف حالك، هيا تفضل " .. لكن لن يكون لديه وقت ليعزم عليك. شئ طبيعي. والأكيد أن أصحاب البوتيكات الجديدة لن يجد الواحد منهم الوقت لأكثر من الوقوف معك لبضع دقائق وخارج البوتيك! وهكذا يمكن ربط درجة الحفاوة في أي مكان بطبيعة المعاش ووتيرة الحياة .. وصولا إلى الإنجليزي الذي يكتفي بإشارة من حاجبيه وكلمة هالو.


هذه الاختلافات هي ما جعلت سكان البادية ينظرون إلى سكان درنة أو بنغازي على أنهم بخلاء، وكذلك الشراقة أو حتى ساكني مدينة الزاوية أو غريان الزائرين لطرايلس ينظرون لساكني تلك المدينة على أنهم كذلك.


أما اعتبار هذه الانطباعات كنوع من الإهانة فإنه يكشف للأسف عن ضيق الأفق ليس إلا!! إنها من حقائق الحياة ولها مسبباتها ودواعيها. والتعصب مقيت ومدمّر، وبذوره لا تولد إلا الشقاق والصراعات. ولا يتسق مع الحياة العصرية القائمة على التسامح والأمل.. فدعونا نزرع محبة كل الليبيين لكل قرية ومدينة ليبية!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق