حين ولد محمود دهيميش في زنقة عقيرب عام 1911 .. كانت بنغازي مدينة صغيرة بمحلاتها القريبة من بعضها إلى درجة التلاحم .. وبأسواقها .. وبأسباخ الملح عند أطرافها وضواحيها الأقرب إلى القلب رغم انعدام وسائل المواصلات الحديثة تلك الأيام.
غير أن بنغازي رغم صغرها، كانت كبيرة بتآلفها الاجتماعي العجيب .. وبتكويناتها الإنسانية الدافئة .. وبشمسها المشرقة كل يوم . كانت آنذاك مدينة وقرية، ورغم مرارة الزمن وقسوته تظل رانية إلى الأفق وتحلم بنهار آخر !
كان الحكم التركي .. أو (أيام العصملي)، في لحظاته الأخيرة، وكان قد انتهى قريباً من تشييد قصر البركة .. وكان سوق الظلام مايزال يتذكر جروحاً أصابته وظلت عالقة به جراء الحريق الهائل الذي أتى عليه منذ أربع سنوات مضت، وكان ثمة بقايا من أعوام المجاعة وندرة الأمطار .. والأوبئة.
لكن رغم كل شيء .. كانت هناك حياة .. وكانت هناك حركة .. وبشر .. وعادات .. ودرايب وتقاليد .. وأفراح تنقر فيها الدرابيك .. وأسواق أخرى .. وممثلان للمدينة في (المبعوثان) بإسطامبول بعد إعلان الدستور قبل ثلاث سنوات هما : عمر منصور الكيخيا ويوسف أحمد بن شتوان. وكانت المنارة التي أسهم في إقامتها الفرنسيون فوق التلة المقابلة لضريح خريبيش (مكان السجن القديم) تهدي السفن للدخول إلى البوغاز، وكانت المدرسة الرشدية على شاطئ بحر الشابي تضم طلبة من شباب المدينة، وأيضاً من درنة، وقد تخرج فيها ذلك العام أو قبله بقليل بعضهم : أحمد البوري، إبراهيم علي الشويهدي، إبراهيم سامي الجربي، عوض سكيليل، محمد الساقزلي، صالح عموره، يوسف اللواحي .. وغيرهم، وكانت ثمة فتاتان سافرتا أيضاً للدراسة على ضفاف البسفور في إسطامبول (عاصمة الدولة العليّة): حميدة طرخان أو (العنيزي) كما عُرفت لاحقاً، وبديعة سرور أو (فليفله) فيما بعد .
كان هناك في هذه الصورة أيضاً للمدينة الصغيرة، جملة من العلماء ورجال الدين من أهل البلاد، إضافة إلى بعض الشوام والترك على مذهب الأحناف، كان في مقدمة هؤلاء : الشيخ محمد بن عامر وقاضي المدينة ومفتيها مؤسس جمعية الحفاظ على البنات المسلمات (1915 ـ 1919)، والشيخ محمد رضوان الشويهدي .. الشاعر، وأستاذ الشاعر أحمد رفيق، والشيخ السنوسي الساقزلي، والفقيه محمد عبدالحفيظ الفزاني، والشيخ إبراهيم حويو، والشيخ خليل الكوافي .. وغيرهم.
كانت الزوايا، والخلاوي في المساجد تشكل إرثاً روحياً حقيقياً، وتمثل منارات ثقافية وعلمية نحو الخير والإصلاح، وفيها يلتقي حفاظ القرآن الكريم .. يتلونه ويدرسون أحكامه منذ أن يتنفس الصباح ويعلمونه للصغار الذين أصبح محمود بن محمد المبروك دهيميش واحداً منهم في فترة موالية.
ثم غزت إيطاليا شاطئ جليانه ببوارجها وبحارتها في جردة شاملة وكبرى للوطن الليبي بكامله الذي أرادته شاطئاً رابعاً لها .. واحتلّت المدينة بعد أيام من القتال الضاري امتزج فيها الدم الليبي الغالي عبر بنغازي مع ما حولها وتجمع الرجال ليكوّنوا دور بنينه فوق الهضاب المطلة من بعيد على المدينة لمواصلة النضال، وكان في مقدمتهم ـ بالطبع ـ مشايخ الزوايا من العلماء، والحفاظ، ورواة المتون والأوراد، الذين رأوا في العدوان استهدافاً واضحاً للعقيدة والهوية الوطنية، وقد فطنت إيطاليا لذلك فنفت مجموعات منهم مع سكان المدن والقرى إلى جزرها النائية والموحشة.
في تلك الأجواء .. أجواء عام 1911 في بنغازي، وليبيا عموماً، وهي فترة العقد الأول من القرن العشرين، وُلِد محمود دهيميش في أسرة بسيطة مكوّنة من والده ووالدته السيدة (مجالي) وأخته (فاطمة) وشقيقه (حسن).
في تلك الفترة ظلّ التعليم يقتصر في العموم ـ خاصة في بداياته ـ على التعليم والثقافة الدينية في المساجد التي تمتلئ بها دروب المدينة وضواحيها في سيدي حسين والبركة، وكان هناك عدد كبير من الفقهاء والأئمة الذين كان جلّهم يجيد حفظ القراءات المتواترة، وبعضهم كان يتفنن في ورش أصعب تلك القراءات وأدقها . كانت توجد نخبة مثقفة بسيطة، وكان الشعر الشعبي هو الصوت الطاغي يصوّر الأحداث ويوثقها وينقلها إلى الناس صباحاً ومساءً .
فتح دهيميش بصره في جامع الوحيشي الذي كان على شهرة في وسط المدينة في تحفيظ الكتاب الكريم وإقامة الحلقات الخاصة عقب كل صلاة، وبدأ الحفظ وعمره أربع سنوات عام 1915 في عز أيام الحرب العالمية الأولى .. كان هناك فقر وجوع ومرض واحتلال، وكان هناك انتصار وطني للمجاهدين من ليبيا كافة في القرضابية.
في جامع الوحيشي، وغيره، كانت طريقة التعلّم ووسيلته هي الكتابة على اللوح بقلم القصب، ومحوه بالطفلة، وترديد عبارة (نعم سيدي) .. وأليف لا شيء عليه .. والباء وحده من تحت .. إلخ، ثم الابتهاج عند ختمة كل جزء، وإقامة احتفال بسيط بالمناسبة.
كانت بنغازي ذلك الوقت تعج بالفقهاء الأفاضل .. حفظة الكتاب الكريم، وقد وصل عددهم عام 1920 إلى (58) فقيها، وفي عام 1922 (54) .. وهكذا . كان هناك ـ على سبيل المثال ـ طوال هذه الأعوام وما بعدها ـ رغم الحرب والاحتلال ـ والتي شهدت طفولة وصبا وشباب دهيميش ودراسته وحفظه وتعليمه ـ مجموعة لاشكَّ أن سير حياتهم طرقت سمعه ورآهم ببصره، وأحب أن يبلغ مبلغهم من حفظ ورواية وقراءة وعلم، كان من بين هؤلاء الأفاضل: مصطفى دريزة، عبدالسلام دريزة، بوبكر دريزة، خليل الشويهدي، محمد الشويهدي، محمد الشويرف بومدين (والد السيد بومدين)، مصطفى المدّلقم، إبراهيم الشعالية، إبراهيم بازامه، محمد البصير الموهوب، عبدالله قادربوه، موسى أحمد البرعصي، منصور بن صويد، سليمان الجهاني، رافع القاضي، عبدالحفيظ القاضي، محمد السنوسي بن هلوم، لامين الهوني، عبدالله لوليد، المكي محمد الوحيشي، بوزيد الشطيطي، منصور الأبيض، محمد شقيفه، محمد فرج الفلاح، محمد علي الشابي، علي البناني، محمد بن عقيله اخليف، محمد محمود عباس، الصادق مسعود الورفلي، محمد بوزغيبه، ثم عبدالنبي الترهوني الذي حفظ دهيميش القرآن الكريم على يديه عام 1921 وكان عمره عشر سنوات (كان ذلك العام يمثل جزءاً من سنوات الهدنة والاتفاقيات، وتأسس أول برلمان محلي، وصدرت أول صحيفة وطنية أنشأها عوض بونخيلة في ميدان سوق الوحيشي .. على مرمى حجر من الجامع)، ثم الشيخ الشهير محمد الدادسي الذي حفظ الكثير من أبناء المدينة عليه أيضاً وصار قدوة ومثلاً وصورة متميزة مثل غيره للفقيه العالم ذلك الزمن.
هذه أول محطات الشيخ محمود دهيميش، تعليمه وحفظه ودراسته على أيدي أمثال هؤلاء الفقهاء والشيوخ، والجلوس إليهم، والاستماع إلى خطبهم ودروسهم .. حضور حلقاتهم والمشاركة في المناسبات الدينية التي تجمع الأواصر والعلاقات مع الشباب ممن هم في عمره.
وكان هناك أيضاً ـ في جانب مواز ـ مجموعة من المثقفين والمعلمين الوطنيين استفاد منهم الشيخ وأفاد، وفي مقدمتهم الشيخ أحمد مرسي البرغثي الذي برع في تدريس اللغة العربية وآدابها وفنونها من نحو وصرف وبلاغة وعروض، وقد درّس للعديد من أجيال المدينة.
إن أسماء هؤلاء الأعلام من الفقهاء، والمعلمين الليبيين، وغيرهم، يضحى من اللازم توجيه العناية لهم .. ولسيرهم وتجاربهم وكفاحهم وعطائهم، فتـُعقد من أجلهم الندوات وتُعد الأطروحات العلمية، وتـُطلق أسماؤهم على الشوارع والميادين والمدارس لتتواصل الأجيال وتعرف أن هناك في ليبيا الكثير من الرجال العظام، الذين لم يبخلوا عليها في وقت مفعم بالقسوة والصعوبة .. وأكدوا على الدوام أنها وادٍ ذو زرع!
هنا أصبح الشيخ مجوّداً ومرتـّلاً .. صاحب صوت رخيم جميل، فيه نكهة ليبية، ورائحة (بنغازية) تستل الإعجاب وهو ينقل إلى سامعيه بخشوع كلمات الله المباركة .. وهنا أيضاً يدخل الشيخ محمد رفعت .. القارئ المصري الفذ، على الخط، فيتأثـر به دهيميش ويحاكيه، ثم يشجعه الأمير إدريس (قبيل الاستقلال) فيبعثه ليواصل دراسة التجويد بالأزهر وليحصل على إجازته عام 1952 بعد وفاة مضرب المثل لديه الشيخ الضرير رفعت بعامين.
في هذا البراح الواسع، والتجويد تحسين وفن وإبداع، يجد "الفن" لدى الشيخ إعجاباً فينشد ويترنم، وكثير من الشيوخ والعلماء فنانون بالفطرة .. وأصحاب موهبة .. وهذه كانت سمة لأغلبهم : الشيخ الصفتي والشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد درويش، فيتابع هذه الأمور بتحبب ودونما خلل . كان هناك في بنغازي الشيخان محمد الصفراني ومحمد السوداني .. عالمان جليلان استهواهم الغناء والإنشاد الصوفي .. وأعجبوا به .. ورددوه في نزهاتهم ورحلاتهم .. واستمتعوا به مع تلاميذهم ومريديهم .. وتلك وسطية .. وفيها ذوق واهتمام، والنفس تميل إلى الجمال في الحياة دونما إسفاف.
وفي اقتراب من ذلك امتهن الشيخ حرفة (الطلاء) ليكسب قوته .. وقوت أسرته، و"الجيار" فنان يجيد خلط الألوان، بفرشاته البسيطة!
محطة ثانية، لكنها بارزة في حياة الشيخ دهيميش، هي التعليم حيث أسهم في إعداد أجيال وطنية في وقت شحت فيه الإمكانيات .. التحق بالتدريس لتعليم التربية الدينية في مدرسة الأمير الأولية أعوام الأربعينيات الماضية وشارك زملاءه : محمود دريزة، عبيدالله عامر، محمد جبريل، بن عروس مهلهل، محمد القرقوري، حامد الشويهدي، عبدالعزيز الأبيض، يوسف الدلنسي .. وغيرهم . ثم ليعمل مفتّشاً للتغذية المدرسية في بنغازي فمديراً لها حتى عام 1970، وكان قد تطوّع أيام الحرب العالمية الثانية لتعليم أبناء بعض الأسر التي جلت من بنغازي في سواني عصمان وما حولها من الضواحي.
التعليم لدى دهيميش ـ مثل أقرانه ـ كان رسالة ومهنة مقدّسة وواجباً وطنياً، وقد عرفته أجيال مدرسة الأمير تلك الأعوام معلّماً فاضلاً .. قديراً .. واصل رسالة شيوخه ومعلميه بحماس، وكان من بين تلاميذه تلك الأيام : منصور محمد الكيخيا، حسن وصالح بن دردف، حسن عريبي، الصادق النيهوم، خليفة الفاخري، عبدالرحيم فايد الجازوي، طاهر بوقعيقيص، حسين الشريف، عبدالمولى دغمان .. وغيرهم كثير.
محطة ثالثة مهمة في سيرة حياة الشيخ، هي الإذاعة ..
كان من بناة الإذاعة المحلية ومؤسسيها مع بداياتها في معسكر الريمي عام 1950، أو قبله بقليل، مع زملائه : محمد بن صويد، خيري بن عامر، مفتاح السيد الشريف، إبراهيم اطوير، حميدة بن عامر، وكان أول قارئ للقرآن على الهواء من خلال إرسالها المباشر الذي يبث لفترات قصيرة في اليوم الواحد، وارتبط بها المستمعون في بنغازي الصغيرة، وقرأ النشرة الإخبارية في غياب المذيع، كما أسهم لاحقاً مع روادها من العاملين والمذيعين : عبدالله عبدالمولى، المبروك الورفلي، عيسى بالخير، عبداللطيف عيد، سعد إسماعيل، أبوالقاسم بن دادو الذي أخبرني شخصياً ـ رحمه الله ـ بأن الذي اكتشفه وقدّمه للعمل مذيعاً عام 1954 الشيخ محمود دهيميش عندما أعجب بنبرات صوته واستحسنه وكانا على شاطئ بحر الشابي وطلب منه قراءة جزء من مقال في إحدى الصحف المحلية، وقد ظلّ بن دادو من خيرة المذيعين، واختير فيما بعد كبيراً لهم، وخديجة الجهمي، وفرج الشريف.
وعندما تطوّرت الإذاعة المحلية في مرحلة لاحقة صار صوت الشيخ دهيميش مع أصوات المقرئين : أبوبكر صالح المسلاتي، ولامين قنيوه، ولامين التومي، ومحمد جمعه زوبي .. وغيرهم في تلك السنوات عنواناً واضحاً للعطاء الليبي في هذا الفن الروحي العظيم.
بنغازي، وليبيا كلها، وأهلها .. ومساجدها .. ومدارسها .. ومناسباتها الدينية والاجتماعية والوطنية .. وإذاعتها .. عرفته علماً قارئاً لكتاب الله، ومَعْلَماً من معالم تاريخها الروحي والعلمي والثقافي، وإنساناً صاحب ظرف وطرافة، الذي استمرّ في رسالته الروحية من على المنبر إلى آخر لحظة من عمره، وسيظل الشيخ الجليل محمود دهيميش في ذاكرة الوطن التي لا تنس رجالها وأعلامها في كل الظروف.
غير أن بنغازي رغم صغرها، كانت كبيرة بتآلفها الاجتماعي العجيب .. وبتكويناتها الإنسانية الدافئة .. وبشمسها المشرقة كل يوم . كانت آنذاك مدينة وقرية، ورغم مرارة الزمن وقسوته تظل رانية إلى الأفق وتحلم بنهار آخر !
كان الحكم التركي .. أو (أيام العصملي)، في لحظاته الأخيرة، وكان قد انتهى قريباً من تشييد قصر البركة .. وكان سوق الظلام مايزال يتذكر جروحاً أصابته وظلت عالقة به جراء الحريق الهائل الذي أتى عليه منذ أربع سنوات مضت، وكان ثمة بقايا من أعوام المجاعة وندرة الأمطار .. والأوبئة.
لكن رغم كل شيء .. كانت هناك حياة .. وكانت هناك حركة .. وبشر .. وعادات .. ودرايب وتقاليد .. وأفراح تنقر فيها الدرابيك .. وأسواق أخرى .. وممثلان للمدينة في (المبعوثان) بإسطامبول بعد إعلان الدستور قبل ثلاث سنوات هما : عمر منصور الكيخيا ويوسف أحمد بن شتوان. وكانت المنارة التي أسهم في إقامتها الفرنسيون فوق التلة المقابلة لضريح خريبيش (مكان السجن القديم) تهدي السفن للدخول إلى البوغاز، وكانت المدرسة الرشدية على شاطئ بحر الشابي تضم طلبة من شباب المدينة، وأيضاً من درنة، وقد تخرج فيها ذلك العام أو قبله بقليل بعضهم : أحمد البوري، إبراهيم علي الشويهدي، إبراهيم سامي الجربي، عوض سكيليل، محمد الساقزلي، صالح عموره، يوسف اللواحي .. وغيرهم، وكانت ثمة فتاتان سافرتا أيضاً للدراسة على ضفاف البسفور في إسطامبول (عاصمة الدولة العليّة): حميدة طرخان أو (العنيزي) كما عُرفت لاحقاً، وبديعة سرور أو (فليفله) فيما بعد .
كان هناك في هذه الصورة أيضاً للمدينة الصغيرة، جملة من العلماء ورجال الدين من أهل البلاد، إضافة إلى بعض الشوام والترك على مذهب الأحناف، كان في مقدمة هؤلاء : الشيخ محمد بن عامر وقاضي المدينة ومفتيها مؤسس جمعية الحفاظ على البنات المسلمات (1915 ـ 1919)، والشيخ محمد رضوان الشويهدي .. الشاعر، وأستاذ الشاعر أحمد رفيق، والشيخ السنوسي الساقزلي، والفقيه محمد عبدالحفيظ الفزاني، والشيخ إبراهيم حويو، والشيخ خليل الكوافي .. وغيرهم.
كانت الزوايا، والخلاوي في المساجد تشكل إرثاً روحياً حقيقياً، وتمثل منارات ثقافية وعلمية نحو الخير والإصلاح، وفيها يلتقي حفاظ القرآن الكريم .. يتلونه ويدرسون أحكامه منذ أن يتنفس الصباح ويعلمونه للصغار الذين أصبح محمود بن محمد المبروك دهيميش واحداً منهم في فترة موالية.
ثم غزت إيطاليا شاطئ جليانه ببوارجها وبحارتها في جردة شاملة وكبرى للوطن الليبي بكامله الذي أرادته شاطئاً رابعاً لها .. واحتلّت المدينة بعد أيام من القتال الضاري امتزج فيها الدم الليبي الغالي عبر بنغازي مع ما حولها وتجمع الرجال ليكوّنوا دور بنينه فوق الهضاب المطلة من بعيد على المدينة لمواصلة النضال، وكان في مقدمتهم ـ بالطبع ـ مشايخ الزوايا من العلماء، والحفاظ، ورواة المتون والأوراد، الذين رأوا في العدوان استهدافاً واضحاً للعقيدة والهوية الوطنية، وقد فطنت إيطاليا لذلك فنفت مجموعات منهم مع سكان المدن والقرى إلى جزرها النائية والموحشة.
في تلك الأجواء .. أجواء عام 1911 في بنغازي، وليبيا عموماً، وهي فترة العقد الأول من القرن العشرين، وُلِد محمود دهيميش في أسرة بسيطة مكوّنة من والده ووالدته السيدة (مجالي) وأخته (فاطمة) وشقيقه (حسن).
في تلك الفترة ظلّ التعليم يقتصر في العموم ـ خاصة في بداياته ـ على التعليم والثقافة الدينية في المساجد التي تمتلئ بها دروب المدينة وضواحيها في سيدي حسين والبركة، وكان هناك عدد كبير من الفقهاء والأئمة الذين كان جلّهم يجيد حفظ القراءات المتواترة، وبعضهم كان يتفنن في ورش أصعب تلك القراءات وأدقها . كانت توجد نخبة مثقفة بسيطة، وكان الشعر الشعبي هو الصوت الطاغي يصوّر الأحداث ويوثقها وينقلها إلى الناس صباحاً ومساءً .
فتح دهيميش بصره في جامع الوحيشي الذي كان على شهرة في وسط المدينة في تحفيظ الكتاب الكريم وإقامة الحلقات الخاصة عقب كل صلاة، وبدأ الحفظ وعمره أربع سنوات عام 1915 في عز أيام الحرب العالمية الأولى .. كان هناك فقر وجوع ومرض واحتلال، وكان هناك انتصار وطني للمجاهدين من ليبيا كافة في القرضابية.
في جامع الوحيشي، وغيره، كانت طريقة التعلّم ووسيلته هي الكتابة على اللوح بقلم القصب، ومحوه بالطفلة، وترديد عبارة (نعم سيدي) .. وأليف لا شيء عليه .. والباء وحده من تحت .. إلخ، ثم الابتهاج عند ختمة كل جزء، وإقامة احتفال بسيط بالمناسبة.
كانت بنغازي ذلك الوقت تعج بالفقهاء الأفاضل .. حفظة الكتاب الكريم، وقد وصل عددهم عام 1920 إلى (58) فقيها، وفي عام 1922 (54) .. وهكذا . كان هناك ـ على سبيل المثال ـ طوال هذه الأعوام وما بعدها ـ رغم الحرب والاحتلال ـ والتي شهدت طفولة وصبا وشباب دهيميش ودراسته وحفظه وتعليمه ـ مجموعة لاشكَّ أن سير حياتهم طرقت سمعه ورآهم ببصره، وأحب أن يبلغ مبلغهم من حفظ ورواية وقراءة وعلم، كان من بين هؤلاء الأفاضل: مصطفى دريزة، عبدالسلام دريزة، بوبكر دريزة، خليل الشويهدي، محمد الشويهدي، محمد الشويرف بومدين (والد السيد بومدين)، مصطفى المدّلقم، إبراهيم الشعالية، إبراهيم بازامه، محمد البصير الموهوب، عبدالله قادربوه، موسى أحمد البرعصي، منصور بن صويد، سليمان الجهاني، رافع القاضي، عبدالحفيظ القاضي، محمد السنوسي بن هلوم، لامين الهوني، عبدالله لوليد، المكي محمد الوحيشي، بوزيد الشطيطي، منصور الأبيض، محمد شقيفه، محمد فرج الفلاح، محمد علي الشابي، علي البناني، محمد بن عقيله اخليف، محمد محمود عباس، الصادق مسعود الورفلي، محمد بوزغيبه، ثم عبدالنبي الترهوني الذي حفظ دهيميش القرآن الكريم على يديه عام 1921 وكان عمره عشر سنوات (كان ذلك العام يمثل جزءاً من سنوات الهدنة والاتفاقيات، وتأسس أول برلمان محلي، وصدرت أول صحيفة وطنية أنشأها عوض بونخيلة في ميدان سوق الوحيشي .. على مرمى حجر من الجامع)، ثم الشيخ الشهير محمد الدادسي الذي حفظ الكثير من أبناء المدينة عليه أيضاً وصار قدوة ومثلاً وصورة متميزة مثل غيره للفقيه العالم ذلك الزمن.
هذه أول محطات الشيخ محمود دهيميش، تعليمه وحفظه ودراسته على أيدي أمثال هؤلاء الفقهاء والشيوخ، والجلوس إليهم، والاستماع إلى خطبهم ودروسهم .. حضور حلقاتهم والمشاركة في المناسبات الدينية التي تجمع الأواصر والعلاقات مع الشباب ممن هم في عمره.
وكان هناك أيضاً ـ في جانب مواز ـ مجموعة من المثقفين والمعلمين الوطنيين استفاد منهم الشيخ وأفاد، وفي مقدمتهم الشيخ أحمد مرسي البرغثي الذي برع في تدريس اللغة العربية وآدابها وفنونها من نحو وصرف وبلاغة وعروض، وقد درّس للعديد من أجيال المدينة.
إن أسماء هؤلاء الأعلام من الفقهاء، والمعلمين الليبيين، وغيرهم، يضحى من اللازم توجيه العناية لهم .. ولسيرهم وتجاربهم وكفاحهم وعطائهم، فتـُعقد من أجلهم الندوات وتُعد الأطروحات العلمية، وتـُطلق أسماؤهم على الشوارع والميادين والمدارس لتتواصل الأجيال وتعرف أن هناك في ليبيا الكثير من الرجال العظام، الذين لم يبخلوا عليها في وقت مفعم بالقسوة والصعوبة .. وأكدوا على الدوام أنها وادٍ ذو زرع!
هنا أصبح الشيخ مجوّداً ومرتـّلاً .. صاحب صوت رخيم جميل، فيه نكهة ليبية، ورائحة (بنغازية) تستل الإعجاب وهو ينقل إلى سامعيه بخشوع كلمات الله المباركة .. وهنا أيضاً يدخل الشيخ محمد رفعت .. القارئ المصري الفذ، على الخط، فيتأثـر به دهيميش ويحاكيه، ثم يشجعه الأمير إدريس (قبيل الاستقلال) فيبعثه ليواصل دراسة التجويد بالأزهر وليحصل على إجازته عام 1952 بعد وفاة مضرب المثل لديه الشيخ الضرير رفعت بعامين.
في هذا البراح الواسع، والتجويد تحسين وفن وإبداع، يجد "الفن" لدى الشيخ إعجاباً فينشد ويترنم، وكثير من الشيوخ والعلماء فنانون بالفطرة .. وأصحاب موهبة .. وهذه كانت سمة لأغلبهم : الشيخ الصفتي والشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد درويش، فيتابع هذه الأمور بتحبب ودونما خلل . كان هناك في بنغازي الشيخان محمد الصفراني ومحمد السوداني .. عالمان جليلان استهواهم الغناء والإنشاد الصوفي .. وأعجبوا به .. ورددوه في نزهاتهم ورحلاتهم .. واستمتعوا به مع تلاميذهم ومريديهم .. وتلك وسطية .. وفيها ذوق واهتمام، والنفس تميل إلى الجمال في الحياة دونما إسفاف.
وفي اقتراب من ذلك امتهن الشيخ حرفة (الطلاء) ليكسب قوته .. وقوت أسرته، و"الجيار" فنان يجيد خلط الألوان، بفرشاته البسيطة!
محطة ثانية، لكنها بارزة في حياة الشيخ دهيميش، هي التعليم حيث أسهم في إعداد أجيال وطنية في وقت شحت فيه الإمكانيات .. التحق بالتدريس لتعليم التربية الدينية في مدرسة الأمير الأولية أعوام الأربعينيات الماضية وشارك زملاءه : محمود دريزة، عبيدالله عامر، محمد جبريل، بن عروس مهلهل، محمد القرقوري، حامد الشويهدي، عبدالعزيز الأبيض، يوسف الدلنسي .. وغيرهم . ثم ليعمل مفتّشاً للتغذية المدرسية في بنغازي فمديراً لها حتى عام 1970، وكان قد تطوّع أيام الحرب العالمية الثانية لتعليم أبناء بعض الأسر التي جلت من بنغازي في سواني عصمان وما حولها من الضواحي.
التعليم لدى دهيميش ـ مثل أقرانه ـ كان رسالة ومهنة مقدّسة وواجباً وطنياً، وقد عرفته أجيال مدرسة الأمير تلك الأعوام معلّماً فاضلاً .. قديراً .. واصل رسالة شيوخه ومعلميه بحماس، وكان من بين تلاميذه تلك الأيام : منصور محمد الكيخيا، حسن وصالح بن دردف، حسن عريبي، الصادق النيهوم، خليفة الفاخري، عبدالرحيم فايد الجازوي، طاهر بوقعيقيص، حسين الشريف، عبدالمولى دغمان .. وغيرهم كثير.
محطة ثالثة مهمة في سيرة حياة الشيخ، هي الإذاعة ..
كان من بناة الإذاعة المحلية ومؤسسيها مع بداياتها في معسكر الريمي عام 1950، أو قبله بقليل، مع زملائه : محمد بن صويد، خيري بن عامر، مفتاح السيد الشريف، إبراهيم اطوير، حميدة بن عامر، وكان أول قارئ للقرآن على الهواء من خلال إرسالها المباشر الذي يبث لفترات قصيرة في اليوم الواحد، وارتبط بها المستمعون في بنغازي الصغيرة، وقرأ النشرة الإخبارية في غياب المذيع، كما أسهم لاحقاً مع روادها من العاملين والمذيعين : عبدالله عبدالمولى، المبروك الورفلي، عيسى بالخير، عبداللطيف عيد، سعد إسماعيل، أبوالقاسم بن دادو الذي أخبرني شخصياً ـ رحمه الله ـ بأن الذي اكتشفه وقدّمه للعمل مذيعاً عام 1954 الشيخ محمود دهيميش عندما أعجب بنبرات صوته واستحسنه وكانا على شاطئ بحر الشابي وطلب منه قراءة جزء من مقال في إحدى الصحف المحلية، وقد ظلّ بن دادو من خيرة المذيعين، واختير فيما بعد كبيراً لهم، وخديجة الجهمي، وفرج الشريف.
وعندما تطوّرت الإذاعة المحلية في مرحلة لاحقة صار صوت الشيخ دهيميش مع أصوات المقرئين : أبوبكر صالح المسلاتي، ولامين قنيوه، ولامين التومي، ومحمد جمعه زوبي .. وغيرهم في تلك السنوات عنواناً واضحاً للعطاء الليبي في هذا الفن الروحي العظيم.
بنغازي، وليبيا كلها، وأهلها .. ومساجدها .. ومدارسها .. ومناسباتها الدينية والاجتماعية والوطنية .. وإذاعتها .. عرفته علماً قارئاً لكتاب الله، ومَعْلَماً من معالم تاريخها الروحي والعلمي والثقافي، وإنساناً صاحب ظرف وطرافة، الذي استمرّ في رسالته الروحية من على المنبر إلى آخر لحظة من عمره، وسيظل الشيخ الجليل محمود دهيميش في ذاكرة الوطن التي لا تنس رجالها وأعلامها في كل الظروف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق